طرح المشكلة :
إن غاية العلم هي الوصول إلى تفسير الظواهر تفسيرا علميا دقيقا ، أي معرفة الأسباب التي تتحكم في الظواهر و مختلف النتائج المترتبة عنها ، و هذا يستلزم إعتماده على مبادئ صحيحة و صارمة بواسطتها يرجع الظواهر إلى شروط معلومة ، و من أبرز ما يعتمده العلم من مبادئ نجد " مبدأ الحتمية " الذي عرفه الفيزيائي الألماني " هانز ريشنباخ " بقوله : " يعني هذا المبدأ في الأساس أن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج حتما " ، أما " مبدأ اللاحتمية " فيعني أن : " نفس الأسباب لا تؤدي إلى نفس النتائج ، أي أن الظواهر الطبيعية لا تخضع لنظام ثابت " ، و لقد أثارت مشكلة العلم بين الحتمية و اللاحتمية جدلا واختلافا و تناقضا بين الفلاسفة و العلماء ، أحدهم يرى الحتمية مبدأ مطلق تخضع له كل ظواهر الطبيعة و الطرف الآخر يرى أن الحتمية ليست مبدأ مطلقا و لا يشمل كل ظواهر الكون فهو مبدأ نسبي ضمن هذا الجدال الفلسفي نتساءل نحن بدورنا هل الظواهر الطبيعية تخضع لمبدأ الحتمية أو اللاحتمية ؟ و بصيغة أخرى هل الحتمية مبدأ مطلق تخضع له كل ظواهر الطبيعة ؟
الموقف الأول :
إن جميع ظواهر الطبيعة خاضعة لنظام و مبدأ ثابت لا يقبل الشك أو الاحتمال أو الصدفة . و هذا المبدأ هو مبدأ الحتمية الذي يعني " أن توفر مجموعة من الشروط ضمن مجموعة من الظروف يؤدي إلى نتائج معينة . و تكرار نفس الشروط ضمن نفس الظروف سوف يؤدي إلى نفس النتائج حتما مما يتيح فرصة التنبؤ بحدوث الظواهر قبل وقوعها هذا يعد قانونا علميا و رفضه يعني إلغاء العقل و العلم . ويتبنى هذا الموقف كل من بوانكاري ، لابلاس ، نيوتن ، غوبلو و قد برروا موقفهم بالحجج التالية :
إن نظام الكون مماثل للساعة في الدقة و الآلية , فإذا تمكن الباحث من معرفة موقع الجسم , سرعته و طبيعة حركته فإنه صار قادرا على ضبطه ضبطا دقيقا . إن التجربة أكدت انه لا مجال للشك في النتيجة القائلة " أن الماء يتبخر عند الدرجة مئة أو يتجمد عند الدرجة الصفر " لان بداهة العقل وحتمية الواقع فرضت هذا الصدق . كما أن المتأمل للأرصاد الجوية يجد أنها تستند إلى جملة من الظروف و الشروط. وحتى الزلازل و البراكين فإنها مرتبطة بقوانين ثابتة, وهذا ما يفسر تنبؤ العلماء بحدوثها في الزمان و المكان ، مثال : ( زلزال كاليفورنيا ) بفيزياء " إسحاق نيوتن " القائمة على المطلقات الثلاث " المكان والزمان و الحركة " ، فقد شبه " نيوتن " الكون بالساعة في الدقة و الآلية ، ويعتقد أن تفسير الكون يخضع لمبادئ ذكر منها مايلي : " لكل فعل رد فعل يساويه في الشدة ويعاكسه في الاتجاه"، والتنبؤ يستند إلى القاعدة القائلة : " إذا علمنا موقع جسم وسرعته وطبيعة حركته أمكننا التنبؤ بمساره ". وقد أشار " نيوتن " في القاعدة الثانية من أسس تقدم البحث العلمي والفلسفي إلى مبدأ الحتمية بقوله : " يجب أن نعين قدر المستطاع لنفس الآثار الطبيعية نفس العلل ". ومن هذا المنطلق يمكن أن نتصور نظاما آليا للكون حيث أكد هنري بوانكاري أن الحتمية من المبادئ البديهية التي لا يمكن للعلم ان يستغني عنها لأنها شرط لوجوده , أي أن حتمية العلم من القضايا التي لا تحتاج أن تأخذ المصداقية عن البرهان لأنها تدخل في نسيج الفكر البشري حيث يقول : " العلم حتمي و ذلك بالبداهة , إذ لولاها لما أمكن للعلم أن يكون العالم الذي لا تسوده الحتمية هو موصد في وجه العلماء " نفس الطرح وجد عند كلود برنارد حيث أكد أن تقبل أية ظاهرة خارج نطاق الحتمية يعد إنكارا للعلم كما أكد " لابلاس " أن الظواهر الطبيعية خاضعة لنظام ثابت , فالحوادث العلمية لا تحدث عبثا , بل لها شروط محددة إذا توفرت هذه الشروط تحققت هذه النتائج حتما فهي متشابهة في البنية و التركيب مهما إختلف الزمان والمكان . و في ذلك يقول: " الكون هو آلة كبيرة يمكن التنبؤ فيه بكل ما سوف يحدث مستقبلا " و يضيف أيضا ينبغي أن نعتبر الحالة الراهنة للكون نتيجة لحالته السابقة و سببا في حالته اللاحقة التي تأتي من بعد ذلك مباشرة ...... و لو استطاع ذكاء ما من أن يعلم في لحظة معينة جميع القوى التي تحرك الطبيعة.... لأصبح المستقبل ماثلا أمامه و يرى بدوي أنه لسنا في حاجة إلى دراسة كل الظواهر في المكان بل يكفي أن نقوم بتجربة على مجموعة من الظواهر في هذا المكان لكي نعمم الحكم فنجعله صالحا لكل زمان ومكان نفس الطرح وجد عند " غوبلو " حيث قال : " العالم متسق تجري حوادثه على نظام ثابت " ، وهذا يعني أن كل الظواهر الطبيعية سواء كانت تنتمي إلى العالم الأكبر ( الماكر وفيزياء ) أو كانت تنتمي إلى العالم الأصغر ( الميكروفيزياء ) فإنها تخضع لمبدأ الحتمية لأنها في الأصل مقيدة بفكرة السببية التي تعني أن لكل ظاهرة علة أدت إلى وجودها
نقد و مناقشة :
إننا لا ننكر ما للحتمية من أهمية في تفسير الطبيعة، لكن وجود نظام صارم للكون لا يعني بالضرورة أن الحوادث العلمية تخضع إلى آلية صارمة، كما أن العلم المعاصر أثبت لنا أن الظواهر المتناهية في الصغر (الميكروسكوبية) مثل "الذرة" لا تخضع لمبدأ الحتمية، بل إن العديد من الظواهر الطبيعية لا تزال مستعصية على العلم، لأنها لا تقبل التنبؤ مثل: الزلازل، وسقوط الأمطار ...الخ ، أضف إلى ذلك أن التفسير الميكانيكي الآلي للكون وما نتج عنه من مطلقات في فيزياء "نيوتن" قامت بدحضه النظريات العلمية المعاصرة مثل : " نظرية الكوانتا " و "النظرية النسبية"، ولو سلمنا بمبدأ الحتمية المطلق كأساس للعلم، فإن ذلك يؤدي بنا إلى الصرامة العلمية و غياب النقد و الشك في النتائج العلمية، كما أن الحتمية مجرد مسلمة و فرضية عقلية، وليست حقيقة تجريبية، وما هو مسلم به يحتمل الصواب أو الخطأ
الموقف الثاني :
إن الحتمية مبدأ نسبي لا يحكم جميع ظواهر الكون فقد توصل علماء الفيزياء في القرن العشرين إثر دراستهم للظواهر الميكروفيزيائية إلى مسلمة أساسية مضمونها انه يصعب دراسة و يستحيل التنبؤ بالمعنى الدقيق . فقد تتوفر نفس الأسباب و نفس الظروف لكن احتمال حدوث نفس النتائج يبقى نسبيا ، و يتبنى هذا الموقف كل من : ديموقريطس ، ماكس بلانك ، هينزنبرغ ... وبرروا موقفهم بالحجج الآتية :
أن الأبحاث التي قام بها علماء الفيزياء و الكيمياء على الأجسام الدقيقة (الميكروفيزيائية) – اكتشاف " جون طومسون ، " للإلكترون " ، و" أرنست رذرفورد " للإشعاع النووي للذرة – أدت إلى نتائج غيرت الاعتقاد بمبدأ الحتمية و المطلقية تغييرا جذريا، لذا قال هيزنبرغ : " إن الوثوق الحتمي كان وهما " ، لأن بعض الظواهر الطبيعية لا تخضع لقوانين صارمة ، الأمر الذي أدى إلى ظهور مبدأ اللاحتمية أو حساب الإحتمال ، فالظواهر المتناهية في الصغر تخضع للاحتمية ، و بالتالي فالحتمية أصبحت غير ممكنة في ظل الاكتشافات العلمية المعاصرة، ومعنى هذا أنه لا يمكن التنبؤ بهذه الظواهر الميكروفيزيائية، ففي مستوى فيزياء الذرة قانون السرعة (س=م/ ز) لا يمكن تطبيقه لقياس دوران الإلكترون حول النواة، لأن دورانه عشوائي ومتغير ذو سرعة فائقة جدا حوالي (7) مليار د/ثا، إذ لا يمكن التنبؤ بمساره . و نفس الشيء بالنسبة لبعض ظواهر العالم الأكبر ( الماكروفيزياء ) مثل : الزلازل والبراكين والفيضانات...الخ أن علماء الفيزياء يتكلمون بلغة الإحتمال أو اللاتعيين أو اللاتحديد خاصة مع النظرية النسبية " أينشتاين " التي نجمت عنها نسبية الزمان و المكان و الحركة و الكتلة ، وهذا ما يتضح في قوله : " كلما اقتربت القوانين من الواقع أصبحت غير ثابتة، وكلما اقتربت من الثبات أصبحت غير واقعية ". و من الأمثلة التي تؤكد لا حتمية العلم أن انشطار ذرة الراديوم لا يخضع لقاعدة أو قانون ثابت، كما أن الذرة تصدر طاقة في شكل صدمات غير منتظمة يصعب معها التنبؤ الدقيق، و كما قال ديراك : " لا يمكن التنبؤ إلا على هيئة ما يسمى حساب الاحتمالات " ، ومن هنا فبحوث الذرة و الضوء ، و الكهرباء و المغناطيس...الخ ، حطمت التصور الحتمي للكون ، وهذا ما أكده إدنجتون بقوله : " الإيمان بوجود علاقات دقيقة صارمة في الطبيعة هو نتيجة للطابع الساذج الذي تتصف به معرفتنا للكون " ، والسبب في ذلك هو ما تنطوي عليه أدوات العلم من أشكال الدحض و الرفض، مما جعل جون إيرمان يقول : " إن كل النظريات الفيزيائية الحديثة هي نظريات لاحتمية " إذن ، فالطبيعة تسير وفق نظام احتمالي لا حتمي ، أو كما يسميه " هيزنبرغ " نظام علاقة الارتياب كما توصل هيزنبرغ إلى استحالة قياس كمية , حجم و تحديد موقع الجسم داخل الذرة. مما يؤدي إلى استحالة التنبؤ الدقيق بحدوث الظواهر . كلما دق قياس الجسم غيرت هذه الدقة كمية حركته , و كلما دق قياس حركته ,التبس موقعه . إذن يمتنع أن يقاس موقع الجسم وكمية حركته معا قياسا دقيقا , أي يصعب معرفة موقعه و سرعته في زمن لاحق
نقد و مناقشة :
صحيح أن النتائج و البحوث العلمية المعاصرة أثبتت أن عالم الميكروفيزياء يخضع للاحتمية ، وحساب الإحتمال، لكن ذلك مرتبط بمستوى أدوات الملاحظة و القياس لحد الآن، فقد تتطور التقنية، وعندئذ في الإمكان تحديد موقع و سرعة الجسم في آن واحد، كما أن إنكار مبدأ الحتمية هو تجاهل للعلم ذاته، بل ويبعد العلم عن غايته المتمثلة في التنبؤ بالظواهر، أضف إلى ذلك أن التحديد الرياضي للعلاقات بين الظواهر المتناهية في الصغر يمكن أن يحل المسألة إلى حين، كما أن مبدأ اللاحتمية ينطبق على عالم الذرة، أما عالم الكون فيخضع لمبدأ الحتمية، مادامت بعض الظواهر الطبيعية يمكن التنبؤ بها مثل: الأعاصير والفيضانات...الخ
التركيب :
من خلال ما تقدم يتبين لنا انه يمكن اعتماد الحتمية كمبدأ مطلق على مستوى الظواهر الماكروفيزيائية , و يمكن الإيمان بفكرة الاحتمال و النسبية على مستوى الظواهر الميكروفيزيائية فإذا نظرنا إلى العالم الأكبر فإننا نلمس الحتمية بوضوح ، أما إذا نظرنا إلى بحوث الذرة فلن نجد إلا الاحتمال . هذا التوفيق بين الطرحين عبر عنه أنصار الحتمية المعتدلة في أن مبدأ الحتمية نسبي و يبقى قاعدة أساسية للعلم ، فقد طبق الاحتمال في العلوم الطبيعية و البيولوجية وتمكن العلماء من ضبط ظواهر متناهية في الصغر واستخرجوا قوانين حتمية في مجال الذرة و الوراثة ، ولقد ذهب لانجفان إلى القول : " إن نظريات الذرة في الفيزياء الحديثة لا تهدم مبدأ الحتمية و إنما تهدم فكرة القوانين الصارمة الأكيدة أي تهدم المذهب التقليدي "
حل المشكلة :
وبعد التحليل يمكن ان نستنتج ان الحتمية المطلقة و أنصار اللاحتمية يهدفان إلى تحقيق نتائج علمية كما أن المبدأين يمثلان روح الثورة العلمية المعاصرة ، كما يتناسب هذا مع الفطرة الإنسانية التي تتطلع إلى المزيد من المعرفة ، و واضح أن مبدأ الحتمية المطلق يقودنا على الصرامة وغلق الباب الشك و التأويل لأن هذه العناصر مضرة للعلم ، وفي الجهة المقابلة نجد مبدأ الحتمية النسبي يحث على الحذر و الابتعاد عن الثقة المفرطة في ثباتها ، لكن من جهة المبدأ العام فإنه يجب علينا أن نعتبر كل نشاط علمي هو سعي نحو الحتمية إذ يعتبر غاستون باشلار بأن مبدأ اللاتعيين في الفيزياء المجهرية ليس نفيا للحتمية ، وفي هذا الصدد نرى بضرورة بقاء مبدأ الحتمية المطلق قائم في العقلية العلمية حتى وإن كانت بعض النتائج المتحصل عليها أحيانا تخضع لمبدأ حساب الاحتمالات
Commentaires
Enregistrer un commentaire