القائمة الرئيسية

الصفحات

هل الفرضية خطوة ضرورية في البحث العلمي التجريبي ؟ مقالة الفرضية بكالوريا 2025

  



هل الفرضية خطوة ضرورية في البحث العلمي التجريبي ؟

طرح المشكلة :

 من المتعارف عليه هو أن كل الاختراعات والاكتشافات العلمية التي عرفتها البشرية في العصر الحديث ، هي سبب ظهور النهضة الصناعية والحضارية ، ويعود الفضل في ذلك إلى مطالبة بعض الفلاسفة بالتخلي عن البحث عن اصل الوجود وعلة العلل وغيرها من الافكار الميتافيزيقية ، والتحول نحو دراسة الظواهر الطبيعية التي تحيط بنا و ذلك باستخدام المنهج التجريبي ، هذا المنهج يتكون من ثلاث خطوات اهمها الفرضية و هي تلك الفكرة المسبقة التي توحي بها الملاحظة للعالم ، فتكون بمثابة خطوة تمهيدية لوضع القانون العلمي ، وبعبارة أخرى هي الفكرة المؤقتة التي يسترشد بها المجرب في إقامته للتجربة . و لعل هذا ما كان سببا في بروز جدل فلسفي حول قيمة الفرضية باعتبارها فكرة عقلية بحيث ترى النزعة التجريبية أن الفرضية ليست ضرورية في البحث العلمي التجريبي و النزعة العقلية التي تعتبرها خطوة ضرورية لكل استدلال تجريبي وبين هذا و ذاك نطرح الإشكال التالي :

  هل يمكن الإستغناء عن الفرضية في البحث العلمي  التجريبي و الإكتفاء بالملاحظة و التجربة فقط ؟

الموقف الأول :

 إن الفرضية خطوة ضرورية في التجريب العلمي. فهي عبارة عن فكرة يحاول ان يشرح بها الباحث تلك الحادثة التي أثارت انتباهه والتساؤل الذي حيره فالظواهر التي يشاهدها العالم في الطبيعة او المختبر تثير فيه أفكار وتصورات معينة تكون الاطار النظري لنسق المعرفة العلمية المتعلقة بالظواهر و هذه الافكار تعد مصدر الكشف العلمي وجوهره. و يمثل هذا الموقف كل من " كلود برنارد ، بوانكاريه غوبلو و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج الآتية :

أن الانطلاقة الفعلية للتجارب لا تكون من الملاحظة لأن الملاحظة نجدها عند جميع الناس و إنما تكون الانطلاقة عندما يتوصل العقل إلى الفرضية المناسبة يقول كلود برنار : « الفكرة هي مبدأ كل برهنة وكل اختراع و إليها ترجع كل مبادرة »  ويقول ايضا : « ينبغي بالضرورة أن نقوم بالتجريب مع الفكرة المتكونة من قبل » كما أن المنهج التجريبي هو عبارة عن ثلاث خطوات منظمة و مرتبة تتبع بعضها البعض حيث تتسبب الملاحظة في طرح تساؤلات تؤدي الى وضع الفرضية المناسبة والتي نتأكد من صحتها بواسطة التجربة وإلغاء التجربة يؤدي إلى حدوث خلل في هذا المنهج و بالتالي يستحيل عليه ان يحقق لنا نتائج علمية وهذا ما يؤكده ايضا العالم الفرنسي هنري بوانكاري إن الملاحظة والتجربة لا تكفيان لإنشاء العلم فمن يقتصر عليهما يجهل صف العلم الأساسية كما أن غياب الفرضية حسبه يجعل كل تجربة عقيمة وهذا ما جعله يصرح : "  ذلك لأن الملاحظة الخالصة و التجربة الساذجة لا تكفيان لبناء العلم " مما يدل على أن الفكرة التي يسترشد بها العالم في بحثه تكون من بناء العقل و ليس بتأثير من الأشياء الملاحظة ويقدم لنا كلود برنار أحسن مثال يؤكد فيه عن قيمة الفرضية و ذلك في حديثه عن العالم التجريبي ” فرانسوا هوبير” ، و هو يقول أن هذا العالم العظيم على الرغم من أنه كان أعمى إلا أنه ترك لنا تجارب رائعة كان يتصورها ثم يطلب من خادمه أن يجربها ، ولم تكن عند خادمه هذا أي فكرة علمية ، فكان هوبير العقل الموجه الذي يقيم التجربة لكنه كان مضطرا إلى استعارة حواس غيره وكان الخادم يمثل الحواس السلبية التي تطبع العقل لتحقيق التجربة المقامة من أجل فكرة مسبقة . و بهذا المثال نكون قد أعطينا أكبر دليل على وجوب الفرضية وهي حجة منطقية تبين لنا أنه لا يمكن أن نتصور في تفسير الظواهر عدم وجود أفكار مسبقة و التي سنتأكد على صحتها أو خطئها بعد القيام بالتجربة  كما يرى غوبلو أن الفرضية ضرورية في العلم وهي الخطوة المهمة في التجريب فالفرضية هي تجاوز لمعطيات الحواس السطحية و غوص في أعماق الظاهرة لأن الظاهرة الخرساء لا يمكن لها أن تكشف عن نفسها بنفسها إن لم يتدخل العقل و يتجاوز ماهو محسوس إلى اللامحسوس إعتمادا على خياله و إفتراضاته و يرى ويوال ان الحوادث تتقدم الى الفكر بدون رابطة الى أن يجيء الفكر المبدع فيقوم بالربط بينها و تنسيقها 

نقد و مناقشة : 

 رغم الدور التي تلعبه الفرضية في عملية الكشف العلمي بحكم انها تعبر عن دور العقل الا ان اعتبارها الخطوة الأهم و الأساس في المنهج التجريبي أمر مبالغ فيه فهي تبقى مجرد تكهن لا قيمة له إذ لم تثبته التجربة كما أن اعتماد الباحث على خيالاته و افتراضاته بشكل مطلق قد يبعده عن الحقيقة الظاهرة و يغير مسار البحث العلمي لذلك فالفرضية خطوة ثانوية غير ضرورية يجب استبعادها و كثيرا ما تكون الفرضيات غيبية لا تتلاءم مع الروح العلمية

الموقف الثاني : 

إن الفرضية خطوة غير ضرورية في البحث العلمي لأنها تقوم على خيال الباحث في تصور الحل ، وأن الخيال يشكل عائقا في وجه الباحث ، مما يشكل عائقا في البحث العلمي، و عليه فلابد من استبعاد الفرض لأنه مخالف للعلم باعتباره انه يقوم على التكهن والظن في حين أن العلم قائم على التجربة و اليقين و يمثل هذا الموقف كل من بيكون ،  ماجندي ، جون ستيوارت مل  و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج الآتية : 

 إن إستعمال الفرضية في عملية الإستدلال التجريبي له إنعكاسات سلبية على نتائجه لأنها خطوة سلبية لها خصائص تعاكس تماما مميزات العلم و أهدافه فهي حكم مسبق يضعه الباحث كتفسير للظاهرة العلمية و لكن هذا التفسير يكون ذاتي اذ انه كثيرا ما يبعده عن الموضوعية وبذلك تكون نتائج بحثه مشكوك فيها و كثيرا ما تكون خاطئة ولا توصله إلى نتائج يقينية . فمثلا إذا وضع العالم فرضية لتفسير حادثة ما و وضع وسائل التجربة وفقا لما تمليه عليه الفرضية فسيمشي في سياقها و بذلك سيحاول اثباتها دون غيرها وبهذا فهو يفرض على نفسه هذا التفسير و يكون تفسير ذاتي وممكن خاطئ لان اهم شروط البحث هي الموضوعية . كما أن العلم يهدف إلى التعبير عن نتائجه و قوانينه بصيغ و رموز رياضية و الفرضية لا علاقة لها بالعلم لإستخدامها للغة العادية لذلك يجب الإستغناء عنها فالتجريب هو الخطوة الضرورية والمهمة في المنهج التجريبي و هي تجعل الباحث في غنى عن الفرضية و هي المعيار الوحيد لصحة المبادئ وبها يصل الى نتائج علمية . فالقول بضرورة الخيال و الإفتراض هو دعوة إلى العودة إلى مرحلة التفسير الميتافيزيقي الغيبي الذي كان سبب في تخلف الإنسان لذلك يرى بيكون بضرورة الإستغناء عن الفرض و الإكتفاء بالتجريب فقط حيث يقول : " التجربة أحسن الأدلة " كما نذكر في هذا السياق ذلك الخطاب الذي وجهه ماجندي لتلميذه كلود برنارد الذي كان يتميز بسعة خياله حينما قال له : " أترك خيالك و عباءتك عند باب المخبر " كما يعتبر الفيلسوف جون ستيوارت مل الفروض جزء من التخمينات العقلية لهذا نجده يحاربها بشدة ، حيث يقول فيها : " ان الفرضية قفزة في المجهول وطريق نحو التخمين ، و لهذا يجب علينا أن نتجاوز هذا العائق و ننتقل مباشرة من الملاحظة الى التجربة " و قد وضع من أجل ذلك قواعد سماها بقواعد الاستقراء هي : طريقة الاتفاق أو التلازم في الحضور ونصها : إن وجود العلة ستلزم وجود المعلول وطريقة الاختلاف أو التلازم في الغياب ونصها أن غياب العلة يستلزم غياب المعلول ثم طريقة التغير السلبي أو التلازم في التغير و نصها أن تغير العلة يستلزم تغير المعلول و أخيرا طريقة البواقي و نصها العلة الباقية للمعلول الباقي و هذه القواعد حسب "مل " تغني البحث العلمي عن الفروض العلمية و منه فالفرضية حسب النزعة التجريبية تبعد المسار العلمي عن منهجه الدقيق لاعتمادها على الخيال المعرض للشك في النتائج و هذا الذي دفع العالم نيوتن يصرح قائلا : " أنا لا أصطنع الفروض " 

نقد و مناقشة : 

 رغم صحة ما نادى به الإتجاه التجريبي إلا أن رفضهم المطلق لدور الفرضية أمر مبالغ فيه فالغاء الفرضية هو إلغاء لدور العقل استقراء العلماء و العباقرة يثبت انهم تميزوا بقوة الذكاء و سعة الخيال أو أن الجانب الحسي لعب دور ثانوي عندهم كما أن نيوتن لم يرفض الافتراض بشكل مطلق و إنما هو معين و هو الافتراض الميتافيزيقي اما طرق الإستقراء فقد وجهت لها الكثير من الانتقادات لذا اعلان باشلار "إن البحث العلمي صحيح يتنافى مع هذه الطرق التي تعيده إلى عصر ما قبل العلم  " النزعة التجريبية  قبلت المنهج الاستقرائي و لكنها تناست أن هذه المصادر هي نفسها من صنع العقل مثلها مثل الفرض أليس من التناقض أن نرفض هذا ونقبل بذاك 

التركيب :

 من الرأيين السابقين ندرك أن الفرضية شرط ضروري للتجريب و يستحيل علينا الاستغناء عنها و لكن ينبغي ان تكون نابعة من الروح العلمية بعيدا عن الغيبيات  ، لقد أحدثت فلسفة العلوم  الابستمولوجيا تحسينات على الفرض خاصة بعد جملة الاعتراضات التي تلقاها من النزعة التجريبية  و منها : أنها وضعت لها ثلاثة شروط  الشرط الأول يتمثل : أن يكون الفرض منبثقا من الملاحظة ، الشرط الثاني يتمثل : ألا يناقض الفرض ظواهر مؤكدة تثبت صحتها ، أما الشرط الأخير يتمثل : أن يكون الفرض كفيلا بتفسير جميع الحوادث المشاهدة ) ، كما أنه حسب عبد الرحمان بدوي لا نستطيع الاعتماد على العوامل الخارجية لتنشئة الفرضية لأنها برأيه مجرد فرص و مناسبات لوضع الفرض بل حسبه أيضا يعتبر العوامل الخارجية مشتركة بين جميع الناس و لو كان الفرض مرهونا بها لصار جميع الناس علماء وهذا أمر لا يثبته الواقع فالتفاحة التي شاهدها نيوتن شاهدها قبله الكثير لكن لا أحد منهم توصل إلى قانون الجاذبية . و لهذا نجد عبد الرحمان بدوي يركز على العوامل الباطنية ؛ « … أي على الأفكار التي تثيرها الظواهر الخارجية في نفس المشاهد »  كما أن الكثير من الإكتشافات العلمية كان الفضل فيها يعود الى الملاحظة فقط كما هو الشأن مع لويس باستور الذي افترض ان الهواء يحتوي على جراثيم و هي التي تسبب التعفن رغم انه لم يتمكن من ملاحظة ذلك يقول باشلار : " ان التجربة و العقل مرتبطان في التفكير العلمي فالتجربة في حاجة إلى أن تفهم و العقلانية في حاجة إلى أن تطبق " 

حل المشكلة : 

 نستنتج في الأخير أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار دور الفرضية أو استبعاد آثارها من مجال التفكير عامة ، لأنها من جهة أمر عفوي يندفع إليه العقل الإنساني بطبيعته ، ومن جهة أخرى وهذه هي الصعوبة ، تعتبر أمرا تابعا لعبقرية العالم وشعوره الخالص وقديما تنبه العالم المسلم الحسن بن الهيثم  قبل كلود برنار في مطلع القرن الحادي عشر بقوله عن ضرورة الفرضية « إني لأصل إلى الحق من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية و صورتها الأمور العقلية » ومعنى هذا أنه لكي ينتقل من المحسوس إلى المعقول ، لابد أن ينطلق من ظواهر تقوم عليها الفروض ، ثم من هذه القوانين التي هي صورة الظواهر الحسية . وهذا ما يأخذنا في نهاية المطاف الى التأكيد على قيمة الفرضية 



Commentaires

التنقل السريع