طرح المشكلة :
إن الإنسان كائن إجتماعي بطبعه يعيش في وسط إجتماعي يؤثر فيه و يتأثر به و تربطه جملة من العلاقات بأفراده تشمل مختلف المجالات لذلك يخضع المجتمع لمجموعة من القوانين التي وضعتها الدولة حتى تضمن إستمرار و إستقرار المجتمع وتنظيم هذه العلاقات و بالتالي تحقيق العدالة بين أفراده و التي تعد من أسمى القيم الإنسانية التي تسعى مختلف المجتمعات الإنسانية إلى تجسيدها و تقوم العدالة على ثنائية أساسية هي الحق و الواجب ، فالحق هو كل ما يسمح به القانون للفرد و ما يخول له من مكاسب مادية و معنوية يمكنه الدفاع عنها و المطالبة بها، أما الواجب فهو مجموعة من القواعد الملزمة على الأفراد إتباعها أو هي ما ينبغي علينا القيام به أو الإمتناع عنه ، إلا أن ما أثار جدال و إختلاف بين الفلاسفة و المفكرين كان حول الأساس الذي تنطلق منه العدالة حيث إنقسموا إلى تيارين متعارضین تیار یری أن الحقوق تتقدم على الواجبات بمعنى الحق هو الأساس الذي يجب أن تنطلق منه العدالة و تيار آخر يرى بأن الواجبات تتقدم على الحقوق بمعنى ذللك الواجب هو الأساس الذي يجب أن تنطلق منه العدالة، إنطلاقا من هذا الجدال و التضارب الواقع بينهم فإن الإشكال الذي يمكننا طرحه هو :
هل تتأسس العدالة الاجتماعية بتقديم الحقوق عن الواجبات ؟ أو بمعنى آخر هل تجسيد العدالة الاجتماعية يقتضي تقديم الحقوق عن الواجبات ؟
الموقف الأول :
يرى أنصار هذا الموقف أن العدالة الحقة هي التي يتقدم فيها الحق على الواجب فمن غير المعقول أن نطالب الإنسان بالقيام بواجباته قبل أن نمنحه حقوقه فهذا يعتبر استغلال و ظلم فالواجب يكسب مشروعيته عندما يكون مسبوقا بالحق و يتبنى هذا الطرح كل من فلاسفة القانون الطبيعي و فلاسفة العقد الإجتماعي و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج الآتية :
يرى فلاسفة القانون الطبيعي أن العدالة الحقيقية تقتضي أن الحق أسبق من الواجب وهو الذي يؤسسه، فقبل أن نطالب الناس بواجباتهم علينا أن نمكنهم قبل كل شيء من حقوقهم فلاحق معطى طبيعي ملازم للوجود الإنساني وهو سابق للقوانين المدنية التي تعبر عن الواجبات و أهم هؤلاء نجد الفيلسوف اليوناني سقراط الذي عرف العدل بقوله : « العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه » و أيضا الفيلسوف الانجليزي جون لوك والألماني فولف وما يؤكد ذلك أن فلاسفة القانون الطبيعي على اختلافهم ، يقرون بأن العدالة تقتضي أن تتقدم فيها الحقوق على الواجبات ، فتاريخ حقوق الانسان مرتبط بالقانون الطبيعي الذي يجعل من الحقوق مقدمة للواجبات ، كون الحق معطى طبيعي ، يقول الفيلسوف الألماني وولف في كتابه القانون الطبيعي : " كلما تكلمنا عن القانون الطبيعي لا نبغي مطلقا قانونا طبيعيا، بل بالأحرى الحق الذي يتمتع به الانسان بفضل ذلك القانون". أما ظهور الواجب فقد ارتبط بضرورة الحياة الجماعية داخل الدولة. فسلطة الدولة حسب فلاسفة القانون الطبيعي مقيدة بقواعد هذا الأخير، الأمر الذي يبرر أسبقية الحق على الواجب. أما الفيلسوف الانجليزي جون لوك فيرى أنه لما كانت الحقوق الطبيعية ترتبط ارتباطا وثيقا بالقوانين الطبيعية، وكانت الواجبات ناتجة عن القوانين الوضعية، أمكن القول أن الحق سابق للواجب من منطلق أن القوانين الطبيعية سابقة للقوانين الوضعية . كون المجتمع الطبيعي سبق المجتمع السياسي ، فإن الحقوق الطبيعية بمثابة حاجات بيولوجية يتوقف عليها الوجود الإنساني ، كالحق في الحرية والحق في الحياة والحق في الملكية، ذلك أن جميع الواجبات ستسقط إذا ضاع حق الفرد في الحياة . يقول جون لوك : "لما كانت الحقوق الطبيعية حقوقا ملازمة للكينونة الإنسانية، فهي بحكم طبيعتها هذه سابقة لكل واجب". كما يعتبر الحق سابقا عن الواجب من منطلق أن الحقوق الطبيعية ملازمة للطبيعة البشرية و سابقة عن وجود الدولة و المجتمع فانضمام الفرد للجماعة و إنشاء العقد الاجتماعي لم يكن إلا لضمان الحقوق فالحق الطبيعي ليس له حدود، سوى حدود ذلك الشخص الذي يمارس ذلك الحق، لكن استمرار هذا الوضع و تشبت كل فرد بحقه الطبيعي سيؤدي إلى تعارض الحقوق والنهاية ستكون مأساوية، لهذا يرى سبينوزا أن العقل هو الذي يميزنا عن باقي الكائنات، هكذا فإن التعاقد السليم هو ذلك الذي ينبني على العقل والغاية من التعاقد هو الخروج من حالة العنف والقوة إلى حالة السلم والأمن والتعاقد بصفة عامة تحتم على الذات التخلي عن كبريائها وليحل ما هو أخلاقي محل ما هو غريزي،فحالة المجتمع أو حالة التمدن كما يسميها جون جاك روسو تجعل الإنسان يضمن ما هو أعظم، وهي الحرية الأخلاقية وأعراف الجماعة وبالتالي يكون الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المدينة وهو انتقال من حق القوة إلى قوة الحق، أي من الاحتكام إلى القوة الطبيعية الفيزيائية إلى القوة القانونية التشريعية والأخلاقية، والقوة المشروعة في نظر روسو هي قوة الحق، لأن حالة التمدن التي يتحدث عنها تضمن للإنسان نفس الحقوق والواجبات، ومعها تنتهي الحقوق الإنسانية فيتم إقرار العدالة عن طريق عقد القوانين والاتفاقات و ما يؤكد ذلك الثورات العربية الحالية التي قامت للمطالبة بالحقوق الطبيعية و أهمها الحرية و أيضا المنظمات الدولية لحقوق الإنسان التي تعتبر الحق قضية مقدسة لا يجب المساس بها و يظهر ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10-12-1948حيث تقول المادة 18 : « لكل شخص الحق في حرية التفكير و الدين يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة و الحقوق و عليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء بدون أي تمييز » وقد جاء أيضا في المادة الثالثة من إعلان حقوق الانسان والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية عام 1789م و الذي تأثر بفلاسفة القانون الطبيعي ، " إن هدف كل جماعة سياسية هو المحافظة على حقوق الانسان الطبيعية التي لا يمكن أن تسقط عنه، هذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن، ومقاومة الاضطهاد ". الواقع يثبت أن سبب الظلم و غياب العدل في كثير من الأحيان هو عدم المطالبة بالحق و على هذا الأساس فالساكت عن الحق شيطان اخرس و كذلك المتغافل عن حقه كمن لا حق مثال ذلك مطالبة العمال الذين تأخرت أجورهم بدفعها لأنها حق لهم و مطالبة سكان منطقة معينة بالسكن الاجتماعي أو مطالبة شباب منطقة ما بتوفير مناصب عمل لهم لأنه حقهم على الدولة إذ يقول فوولف : « كلما تكلمنا عن القانون الطبيعي لا نبغي مطلقا قانونا طبيعيا بل بالأحرى الحق الذي يتمتع به الإنسان بفضل ذلك القانون »
نقد و مناقشة :
صحيح أنه من الناحية المنطقية لا بد للفرد من التمتع بحقوقه الضرورية حتى يستطيع أداء واجباته لكن أنصار هذا الاتجاه اهتموا بالحقوق و قدسوها و أهملوا الواجبات إن فلاسفة القانون الطبيعي وحتى المنظمات الدولية لحقوق الإنسان أقروا الحقوق وقدسوها من جهة، وفي المقابل تجاهلوا الواجبات من جهة أخرى و ذلك يؤدي إلى الإخلال بتوازن الحياة الاجتماعية بالتالي غياب العدالة لان طغيان الحقوق على الواجبات في مجتمع ما يؤدي إلى احتدام الصراع و تضارب المصالح فينعكس ذلك سلبا على وظائف الدولة السياسية و الاقتصادية . إن أهواء الناس و ميولاتهم المتناقضة والمتضاربة من شأنها أن تؤدي بالمجتمع الإنساني إلى العودة إلى حالة الفوضى التي كانت سائدة في حالة الطبيعة، إن الحق يقتضي حسب هوبز وضع حد لحالة كانت سائدة في حالة « حرب الكل ضد الكل » كما أن إقرار هؤلاء الفلاسفة حقوقا مقدسة للفرد أهمها أحقيته في الملكية ؛ يجعلهم يدافعون بقصد أو بغير قصد عن حقوق الأقوياء بدل حقوق الضعفاء، على اعتبار أن الملكية غير متيسرة للجميع؛ بقدر ما تكون حكرا على الطبقة الحاكمة و الغنية ، لأن طغيان الحقوق على الواجبات في مجتمع ما يؤدي إلى تناقضات واضطرابات وثورات
الموقف الثاني :
يرى أنصار هذا الموقف أن الواجب هو معيار العدالة و أساس بناء المجتمعات و تماسكها و هو سابق عن الحق فالعدالة الحقة لا تتجسد إلا من خلال قيام الفرد بواجباته و بعدها المطالبة بالحقوق ، و المطالبة بالحق قبل أداء الواجب يعتبر ذريعة للتهرب من المسؤولية و يتحقق تطور و تقدم الدولة الا من خلال التزام الأفراد بأداء واجباتهم و تبنى هذا الموقف كل من كانط ، دوركايم و اوغست كونت و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج الآتية :
يرى بعض الفلاسفة و على رأسهم الألماني كانط والوضعيون وعلى رأسهم الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي أوغست كونت ، أن للواجب أسبقية منطقية وأفضلية أخلاقية على الحق، وأنه من الضروري أن يبدأ الناس بأداء واجباتهم كي يحق لهم المطالبة بحقوقهم، فالواجب مقتضى عقلي و ضرورة واقعية تتجاوز منطق الذاتية و المصالح الضيقة إن الفلسفة العقلية بزعامة كانط تضع الواجبات في المقام الأول ولا تعير اهتماما للحقوق، لأن فكرة الواجب لذاته (بالمعنى الذي يحدده كانط) ، يبرر أسبقية الواجبات على الحقوق ، فالواجب أمر مطلق منزه عن كل غرض مادي بل هو غاية و ليس وسيلة لنيل مصلحة فالواجب يستند على سلطة الضمير و أحكام العقل الثابتة بالتالي تكون العدالة منزهة عن كل غرض ذاتي حيث يقول : « الواجب هو ضرورة القيام بفعل ما احتراما للقانون » فعندما أعين ضعيفا أو أساعد عاجزا على اجتياز الطريق؛ أرى أن ذلك من واجبي لكنني لا أشعر أن ذلك حق له علي، كما أنني لا أنتظر مقابلا من هذا العمل، مما يعني أنه واجب منزه عن كل حق ومصلحة شخصية. أما بالنسبة إلى أوغست كونت وتماشيا مع نزعته الوضعية التي تتنكر لكل ميتافيزيقا، فيرى أنه لو أدى كل فرد واجبه لنال الجميع حقوقهم، لأن حق الفرد هو نتيجة لواجبات الآخرين نحوه، لان قيام الجميع بواجباتهم يؤدي الى رضاهم و تلبية حقوقهم حيث يقول : « ينبغي أن نحذف مصطلح الحق من القاموس و نبقي على الواجب » وهذا يعني أن تحديد الواجب سابق لإقرار الحق مثال ذلك أن أداء الأستاذ لواجبه التعليمي و أداء التلميذ لواجبه الدراسي و الأخلاقي يجعلهما يحققان توازنا و عدلا في الوسط التربوي .إذ ليس للفرد له أي حق بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، لأن مجرد مطالبة الفرد بحق؛ فكرة منافية للأخلاق، لأنها تفترض مبدأ الفردية المطلق، والأخلاق في حقيقتها ذات طابع اجتماعي. و يرى أوغست كونت إن مراعاة الواجب ترتبط بروح الكل ، حيث تقوم فلسفة كونت على تقديم الاجتماعي على الفردي أي على انتصار الإنسانية ودمج الفرد في المجتمع . فلا شيء أكثر غرابة على فكر كونت من الحقوق الفردية، إن الوضعية لا تقر حقا آخر غير حق القيام بالواجب ولا تقر واجبا غير واجبات الكل تجاه الكل ، لأنها تنطلق دائما من وجهة نظر اجتماعية ولا يمكن لها أن تقبل بمفهوم الحق الفردي . فكل حق فردي هو عبثي بقدر ما هو غير أخلاقي . كما يقترن مفهوم الواجب بالتضحية و الإيثار أي تفضيل الغير على النفس و هي قيم أخلاقية سامية و فاضلة فالواجب يفرضه الضمير و ليس المصلحة و الحق على عكس ذلك يرتبط بمبدأ الذاتية و الأنانية و حب النفس و تفضيلها علة الغير فالعدالة ذات طابع موضوعي بعيد عن ميول الأفراد و رغباتهم لهذا يعتبر مفهوم الواجب أوسع من مفهوم الحق من الناحية الأخلاقية فالقرض مثلا واجب إنساني و أخلاقي و لكن ليس من حق المقترض إجبار و إلزام المقرض على ذلك ونفس الأمر ينطبق مع صفة الكرم فالواجب هو فقط من يفرضها فقد ضحى حاتم الطائي بفرسه حتى يطعم امرأة و أفالها اشتكت له من الجوع رغم أنع كاد اشد منها جوعا هو و زوجته و أطفاله و لم يكن يملك شيئا غير فرسه التي لم يكن يجود بها أبدا لعزتها على نفسه لكن الواجب الأخلاقي جعله يضحي بها و لم يذق من لحمها شيئا
نقد و مناقشة :
صحيح أن أداء الواجب أمر ضروري للحصول على بعض الحقوق لكن الطرح الذي قدمته كل من الفلسفة الكانطية والفلسفة الوضعية يهدم العدالة من أساسها، كونه يبترها من مقوم أساسي تقوم عليه؛ ألا وهو الحق، فكيف يمكن واقعيا تقبل عدالة تغيب فيها حقوق الناس؟ كما أن تاريخ التشريعات الوضعية التي يدافع عنها كونت تبطل ما ذهب إليه، فلا يوجد قانون وضعي يفرض الواجبات على الأفراد دون أن يقر لهم حقوقا، بالتالي تصير العدالة ناقصة تسيء الى الحياة الاجتماعية و توازنها وهذا ما يؤدي الى حصول التذمر و قد تحدث ثورات و اضطرابات من أجل الحصول على الحقوق فالواجب قد يصير ذريعة لتبرير الظلم و الاستغلال و ما حدث في الجزائر في ثورة الزيت و السكر لخير مثال
التركيب :
يمكن القول أن العدالة لا تبنى على الحق وحده و لا على الواجب فتأسيس معالم العدالة على الحق فقط يعد ذريعة للتهرب من المسؤولية و تأسيسها على الواجب وحده ماهو إلا مبرر لظلم و الإستغلال فالعدالة الحقة هي التي توازن بين الحقوق والواجبات و تعمل على تحقيقهما معا لأن غياب أحدهما يؤدي إلى إختلال توازن العدالة و إنهيارها فكلاهما يستلزم الآخر و يفرضه فمن الإجحاف أن يطالب الفرد بحقوقه دون القيام بواجباته و من الظلم أن يقوم بواجبه و لا يحصل على حقه فحق الفرد في استخدام ملكيته يتضمن واجب جيرانه في عدم التعدي على تلك الملكية ، وإذا كان للفرد حق ، فمن واجبه استخدام هذا الحق في الصالح العام لمجتمعه بما يكفل للفرد كرامته و للمجتمع انسجامه يقول أفلاطون : " العدالة هي أداء الفرد لواجبه و إمتلاكه لما يخصه "
حل المشكلة :
و في الأخير يمكن القول أن مشكلة أولوية الحق أو الواجب ليست مشكلة حقيقية و لا واقعية ، لأن العدالة لا تتحقق إلا بهما و من خلالهما دون رجحان أحدهما على الآخر . ولأن الحق هو عينه واجب و الواجب هو الوجه الآخر للحق فإن حق الحياة الذي هو حق طبيعي هو في الوقت ذاته واجب الحفاظ على هذه الحياة في شخصك و في شخص الآخرين . لكن يمكننا القول من الناحية المنطقية أن العدالة تتمثل في ترتيب الحقوق الطبيعية الأساسية و تقديمها على الواجب و من الناحية العملية الواقعية على الفرد أن يقوم بواجباته مقابل حقوق ينالها بدل الاكتفاء بطلب الحق و إهمال الواجب
Commentaires
Enregistrer un commentaire