القائمة الرئيسية

الصفحات

مقالة جدلية هل العلاقة بين الإحساس والإدراك هي علاقة إتصال أم إنفصال بكالوريا 2025

هل يمكن التمييز بين الإحساس والإدراك  ؟ 

طرح المشكلة :

منذ أن وجد الإنسان في هذا العالم و هو يسعى دائما إلى التكيف مع متطلباته و تغيراته وفهم و تفسير ظواهره و في سبيل ذلك يلجأ إلى آليتين مهمتين هما الإحساس و الإدراك و يعرف الإحساس على أنه مجهود أولي بسيط يتم بواسطة الحواس بينما يعرف الإدراك على أنه مجهود عقلي معقد و من خلال تعريفهما يبدو لنا انهما مختلفان و لذلك فقد حدث جدال واسع بين المفكرين والفلاسفة حيث إنقسموا إلى تيارين متعارضين تيار يرى بان الإحساس و الإدراك متمايزان و يجب الفصل بينهما و تيار آخر يرى بأنهما متكاملان ولا يمكن الفصل بينهما و في ظل هذا الجدال فإن الإشكال الذي يمكن طرحه هو : هل العلاقة بين الإحساس و الإدراك هي علاقة إنفصال أم إتصال ؟ 

الموقف الأول :  

يرى كل من العقليين والتجريبيين أن الإحساس والإدراك متمايزان و يجب الفصل بينهما لأنهما مختلفان من حيث الطبيعة والقيمة، فالعقليون وعلى رأسهم ديكارت والآن وباركلي يرون أن الإدراك عملية ذهنية معقدة تعتمد على الكثير من العمليات النفسية الأخرى، أما الحسيون بزعامة الفيلسوف جون لوك، ودافيد هيوم يرون أن الإحساس منفصل عن الإدراك وهو أساس اتصالنا بالعالم الخارجي، لأن كل ما في العقل ليس فطري بل مستمد من التجربة الحسية   ويتبنى هذا الموقف الاتجاه الكلاسيكي (المذهب العقلاني، والمذهب الحسي) و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج الآتية : 

يؤكد أنصار النزعة العقلية على ضرورة الفصل بين الإحساس والإدراك نظرا للتباين الكبير الموجود بينهما، فالمعرفة التي يمدنا بها الإحساس معرفة وهمية ونسبية، في حين أن المعرفة الإدراكية تمتاز باليقين والدقة وإن المعرفة الحقيقية تعود إلى العقل لأن قضاياه صادقة صدقا ضروريا لا يتطرق إليها الشك، فالعقل قوة فطرية لدى جميع الناس وأحكامه ضرورية وأولية وقواعده عامة وثابتة، وهذا ما أكده ديكارت في أن اكتساب المعارف والوصول إلى الشك، اليقين يكون من خلال منهج عقلي وليس حسي وهو فالشك هو الطريق الموصل إلى اليقين وأن الحدس هو نور فطري يمكن العقل من إدراك فكرة ما دفعة واحدة، وهذا الإدراك واضح لأنه يعتمد على شهادة الحواس المزيفة فمن خلال الحواس نرى أن الشيء يزيد حجمه إذا اقترب منا وينقص حجمه إذا ما ابتعد عنا والعصى المغمورة في الماء تبدو منكسرة لكن ليس تلك حقيقة الشيء ولا هذه حقيقة العصا؛ بل حقيقتها ينقلها لنا العقل ولا شيء سواه، فالحواس لا تنتج أي قيمة معرفية وهي قاصرة على إمدادنا بأي معلومة صحيحة لأنها معرضة للخطأ وأن العقل يتدخل كل مرة لإصلاحها، حيث يقول ديكارت : "إن الحواس خادعة ومن الحكمة أن لا نثق بمن يخدعنا ولو مرة واحدة"  ويؤكد (باركلي ) أن الأكمه (الأعمى) إذا استعاد بصره بعد عملية جراحية فستبدو له الأشياء لاصقة بعينيه ويخطئ تقدير المسافات والأبعاد لأنه ليس لديه فكرة ذهنية أو خبرة مسبقة فيبقى عاجزا عن رؤية الأشياء بأبعادها الحقيقة فيتصور أنها تلامس عينيه مما يدفعه إلى استخدم العصا لمدة ثلاثة أشهر حتى يتمكن من تقدير المسافات تقديرا صحيحا، حيث يقول : "إدراك المسافات حكم يستند إلى التجربة والخبرة في توجيه الإدراك"  و يرى جون لوك ان العقل يولد صفحة بيضاء والتجربة التي تكتب عليه ما تشاء ولا وجود لأفكار فطرية سابقة عن التجربة، يقول جون لوك: العقل صفحة بيضاء تخط عليه التجربة ما تشاء، وإن أول المعارف التي يكتسبها الإنسان تكون عن طريق الحواس، فالطفل لا يعرف أن النار تحرق مثلا إلا بعد ملامستها، ولا يعرف طعم أكل معين إلا بعد تذوقه، حيث يقول جون لوك: "لو سألت الإنسان متى يعرف لأجابك متى بدأ يحس" و من جهة أخرى  يذهب الحسيون إلى اعتبار التجربة الحسية مقياس المعرفة ومصدرها وهذا ما أكده أرسطو بقوله : "من فقد حاسة فقد معرفة"، فإذا فقد الإنسان إحدى حواسه فإنه يفقد المعارف المتعلقة بتلك الحاسة، ومثال ذلك الفاقد لحاسة البصر لا يدرك الألوان، وبذلك فالإحساس أولى وأعلى قيمة من  الإدراك المجرد فما يظهر لنا في العالم الخارجي هو ما يبدو  لحواسنا فقط، فالعقل محدود لا يمكنه إدراك جميع المعارف فالمدركات العقلية ما هي  في الأصل إلا انطباعات وخبرات حسية يؤكد دافيد هيوم أن الإحساس هو جسر لكل المعارف والإدراكات بالتالي لا وجود لمبادئ فطرية وأفكار قبلية في العقل لأن كل المعارف بعدية تكتسب بالتجربة الحسية، فلو كان الناس يولدون وهم مزودون بأفكار فطرية لتساووا في المعرفة، حيث يقول هيوم : " كل ما أعرفه استمدته من التجربة الحسية"، و هذا ما أكد عليه مذهب الرواقيون قديما إلى أن مقياس المعرفة الحقة ليس تلك الأفكار التي كوناها بأنفسنا  وصنعناها بأذهاننا، بل لابد من العودة إلى المصدر الذي استقينا منه أفكارنا الكلية أي التجربة الحسية و يؤكد جون ستيوارت ميل في أن الطبيعة كتاب مفتوح ما علينا إلا قراءته بواسطة الحواس، وأي شيء في الذهن مستوحى من الطبيعة، يقول جون ستيوارت ميل : "إن النقاط والخطوط والدوائر الموجودة في الذهن نسخ طبق الأصل لما هو موجود في الطبيعة " ، وأن الإدراك حسب ميل قائم على سلامة الحواس والملاحظة والتجربة، فإدراكنا للعالم الخارجي هو عملية مادية وواقعية ، أما القدرات العقلية كالتفكير والإدراك والشعور تؤدي إلى معارف خيالية وميتافيزيقية 

نقد و مناقشة : 

إن الاختلاف بين الإحساس والإدراك أمر صحيح لا يمكن إنكاره لكنه لا يستلزم الفصل كما ذهب إلى ذلك كل من العقليين والحسيين فالاختلاف لا يعني ضرورة الفصل بل قد يكون المختلفان متكاملان ومتواصلان، فالإدراك العقلي يعتمد في الأساس على ما تنقله الحواس لأن الإحساس هو الجسر الذي يعبره العقل أثناء إدراكه للموضوعات، وهذا يعني أن الإحساس وظيفة يؤديها في عملية الإدراك وبدونه يصبح الإدراك فعلا ذهنيا مستحيلا وهذا ما أغفله العقليين أما الحسيين فقد بالغوا في جعل الإحساس الأساس الوحيد لكل معرفة إنسانية، فالإدراك ليس مجرد تجميع الأحاسيس ولا يمكن إغفال أن المعرفة الحسية في مجملها ساذجة وتوقع في الخداع والخطأ فإن ما ذهب إليه التقليديون مثالي ونظري لا يؤكده الواقع بل يخالفه لأن العالم الخارجي يلح على صعوبة وربما استحالة الفصل بين العمليتين لأنه أينما وجد فهم وإدراك وجد معه أو سبقه بالضرورة إحساس وانطباعات حسية، حيث يقول كانط : "إن المعرفة هي نتاج اجتماع العقل والحواس معا وبذلك لا يمكن الفصل بين الإحساس والإدراك"، لأنه لا وجود لمعرفة عقلية خالصة ولا معرفة تجريبية بحتة، فالإحساس يقدم المعطيات الأولية للمعرفة والإدراك يقوم بتحليل وتركيب وتنظيم هذه الانطباعات الحسية

الموقف الثاني  :

إن الإحساس والإدراك عمليتين متصلتين ولا يمكن الفصل بينهما؛ لأن وظيفتهما واحدة وهدفهما واحد وهي تحقيق التكيف بين العالم الخارجي وتفسير ظواهره فهما بمثابة وجهين لعملة واحدة يتبنى هذا الموقف الاتجاه المعاصر المتمثل في المدرسة الجشطالتية بزعامة ( كوفكا ، وكوهلر، وفرتهيمر) و المدرسة الظواهرية بزعامة ( هوسرل، وميرلوبونتي ) و يبرر هؤلاء موقفهم بالحجج الآتية : 

يرى الجشطالتيون أنه لا يمكن التمييز بين الإحساس والإدراك  لأنهما شيء واحد وأن هدفهما واحد ووظيفتهما واحدة وهي إدراك العالم الخارجي، يقول كوفكا "الإحساس والإدراك عمليتين متصلتين ولا يمكن فصلهما"، ويقول كوهلر: "الإحساس والإدراك عملة واحدة لا يمكن فصل وجهها عن ظهرها"، ويرى الجشطالت أن الشكل أو الصيغة التي يكون عليها الموضوع هي التي تتحكم في العملية الإدراكية أي أن المؤثرات الخارجية هي التي تحدد طبيعة إدراكنا وتغزوا ذواتنا، والإدراك حسب الجشطالتية يمر عبر ثلاثة مراحل أولها نظرة كلية، ثم نظرة تحليلية، ثم إعادة التركيب. أي أن الكل يسبق الجزء فعندما أرى الشجرة أمامي فإنني أدركها ككل وليس كجزء، وعندما افهم نص فلسفي اقرأه كاملا كي أفهم وأدرك معناه، وهم يردون على أنصار الاتجاه الحسي الذي يقولون أن الإدراك هو تجميع للإحساسات ولكن الجشطالتية يؤكدون أن الإدراك كلي، يقول بول غيوم : الإدراك ليس تجميع للإحساسات بل يتم دفعة واحدة يخضع الإدراك حسب الجشطالتية لقوانين تنظيم المجال الادراكي وهي مرتبطة بالشيء الخارجي المدرك وهي جملة من العوامل الموضوعية الخارجية التي لا علاقة للذات بها، و أهمها : 

عامل الشكل والأرضية : كلما كان الشكل مخالفا للأرضية كان إدراكه بسيطا، فإدراك نقطة بيضاء في خلفية سوداء أسهل من إدراك نقطة بيضاء في خلفية بيضاء.

قانون أو عامل التشابه : الموضوعات المتشابهة في الشكل، واللون، والحجم تكون سهلة الإدراك ففي المؤسسة التعليمية نعرف الأساتذة لأنهم يرتدون المآزر ، ونعرف رجال الشرطة لأنهم يرتدون نفس اللباس الرسمي

قانون البروز : فالموضوعات البارزة سهلة الإدراك وبسيطة ففي فرنسا ندرك برج إيفل باريس، وفي أمريكا تمثال الحرية، وفي الجزائر مقام الشهيد مثلا فهي موضوعات بارزة

عامل التقارب :  حيث أن الأشياء المتقاربة في الزمان أو المكان يسهل علينا إدراكها كصيغة متكاملة، فنحن ندرك كراسي حجرة الجلوس كوحدة متكاملة نتيجة تقاربها 

قانون الإغلاق : فنحن في إدراكنا نميل إلى سد الثغرات، أو النقائص، أو التغاضي عنها، فندرك الأشياء الناقصة كما لو كانت كاملة فالدائرة الناقصة في بعض أجزائها ندركها كاملة ونميل لإغلاقها والحرف الغير مكتمل ينطق مكتملا.

أما النظرية الظواهرية فترى أن الإدراك ليس تأويل الإحساس بل هو إمتلاك المعنى الداخلي للمحسوسات بمعنى أن إدراكنا مرتبط بما يظهر لنا و ما نشعر به ،لذلك فهي ترفض الفصل بين الذات المدركة التي ينتج عنها الشعور و الموضوع المدرك و هو موضوع الشعور ، قال ميرلوبونتي : " الإدراك هو ذلك الإتصال الحيوي بالعالم الخارجي الذي يجعله حاضرا لنا بصفته و مكانا مألوفا...منه يستمد موضوعه ، إذ أنه نسيج قصدي يعمل ساعيا إلى المعرفة، و من خصائص الشعور : الإستمرارية و التغيير ، لذلك فإدراكنا للأشياء الخارجية لابد من أن يتغير بتغير شعورنا ، و إن كانت هذه الأشياء في حد ذاتها ثابت قال ميرلوبونتي : " إن إدراكنا للأشياء ليس ثابتا بل هو متغير بتغير شعورنا فالثابت هو الأشياء فقط أما الشعور فهو متغير فعليه فالإدراك متغير" مثال :   إدراكي لأسد في القفص في حديقة الحيوانات يختلف عن ادراكي له في الغابة و هذا ما اوضحه هوسرل في قوله " ارى بلا انقطاع هذي الطاولة سوف اخرج وأغير مكاني ويبقى عندي بلا انقطاع شعور بالوجود الجسمي، الطاولة واحدة في ذاتها لا تتغير وان ادراكي لها يتنوع ويتغير " ومعنى هذا ان ادراكي للطاولة متعدد اذ يمكن ان ادركها من الناحة الجمالية او من ناحية منفعتها وغيرها ,لهذا فالادراك حسب الظواهرية قائم من خلال عاملين او شرطين هما: القصدية والمعايشة، فالقصدية تعنى توجيه الوعي والشعو نحو موضوع قال هوسرل: "كل ادراك هو ادراك لموضوع ما" اما المعايشة فتعنى ان العالم الخارجي الموضوعي و المحسوس ليس ما افكر فيه وانما هو العالم الذي احياه واعيشه بعواطفي كلها كالحب والكره والنفور والفرح والحزن ,فالادراك هو علاقة مباشرة بين الشخص المدرك والموضوع الخارجي الحسي

نقد و مناقشة : 

بالرغم مما قدمه أنصار هذا الموقف حول علاقة الإحساس بالإدراك إلا أن موقفهم يحمل مبالغة؛ لأن الإحساس والإدراك من طبيعتان مختلفتان، كما أنهما لا يحدثان في نفس الوقت ولا يحملان نفس القيمة، فالإحساس سابق عن الإدراك زمنيا والإدراك أعلى قيمة من الإحساس. إن النظريات الحديثة على الرغم من تنبهها للعلاقة الوطيدة بين الإحساس والإدراك إلا أنها بالغت في تفسير الإدراك من حيث أنها تغلب جانب على آخر، فما يُعاب على الجشطالتيون هو أنهم مالوا إلى التركيز على الشروط الخارجية والعوامل الموضوعية الخارجية لعملية الإدراك وهو ما شكل إقصاء للعقل وقدراته الذاتية فجعلت دوره شكلي في العملية الإدراكية رغم أن الذهن ليس إطارا سلبيا يستقبل فقط؛ بل هو فعال يبني في العملية المعرفية. أما بالنسبة للظواهرين فقد غلبوا الشعور في عملية الإدراك وهذا معناه الابتعاد عن الموضوعية نظرا لتعدد الذوات المدركة.

التركيب :  

بعد عرضنا الموقفين السابقين نرى أن العلاقة بين الإحساس والإدراك هي علاقة تكامل وتباين في الوقت نفسه، فهما مختلفان من حيث الدرجة والطبيعة، فالإحساس عملية أولية بسيطة، أما الإدراك فهو عملية عقلية معقدة تتداخل فيها مختلف القدرات الذهنية للإنسان والتجربة الفردية تثبت أن الإنسان في اتصاله بالعالم الخارجي وفي معرفته له ينطلق من الإحساس بالأشياء ثم ينتقل إلى مرحلة التفسير والتأويل كما أنهما متكاملين من حيث الوظيفة والهدف فهما قدرتين متكاملتين ولا يمكن فصلهما على بعضهما، ويمكن القول أن مشكلة الفصل والتمييز بينهما مشكلة كلاسيكية تجاوزها علم النفس الحديث والمعاصر لأن عملية المعرفة تشترطهما معا وعليه فلا فصل مطلق ولا تكامل تام بينهما فمن ناحية الزمن والقيمة والطبيعة نجد أنهما مختلفان وبالتالي منفصلان، أما من ناحية الوظيفة والهدف فهما متصلان ومتكاملان، يقول كانط : "لولا الإحساس لما أدركنا أي موضوع، ولولا الذهن لما تذهنا أي موضوع، فلا الذهن يستطيع أن يتذهن شيئا، ولا الحواس تستطيع أن تتذهن شيئا، إن المعرفة لا تحصل إلا باتحادهما".  

حل المشكلة  : 

و في الأخير يمكن أن عملية فهم وتفسير العلم الخارجي تتم بواسطة عاملين هما الإحساس و الإدراك فرغم التباين الموجود بينهما إلا أن تكاملهما ضروري فهما وجهان لعملة واحدة وهذا الفصل المطلق بينهما فرضته مقتضيات مذهبية لا أكثر ذلك لان الواقع يثبت أن فصلهما عن بعضهما يعطينا معرفة ناقصة حيث يقول كانط  " إن المقولات العقلية بدون المعطيات الحسية جوفاء و المعطيات الحسية بدون المقولات العقلية عمياء























Commentaires

التنقل السريع